الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:قوله: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}.{به} في محلّ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعل (أَتَتْ)، أي: أتَتْ مصاحِبَةً له نحو: جاء بثيابِه، أي: ملتبسًا بها. ويجوز أَنْ تكونَ الباءُ متعلِّقةً بالإِتيان. وأمَّا تَحَمُّلُه فيجوز أن يكونَ حالًا ثانية مِنْ فاعل (أَتَتْ). ويجوز أَنْ يكونَ حالًا من الهاء في {به}. وظاهرُ كلام أبي البقاء أنها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معًا وفيه نظرٌ.قوله: {شيئًا} مفعولٌ به، أي: فَعَلْتِ. أو مصدرٌ، أي: نوعًا من المجيء فَرِيًَّا. والفَرِيُّ: العظيم من الأمر، يقالُ في الخير والشرِّ. وقيل: الفَرِيُّ: العجيب. وقيل المُفْتَعَلُ. ومن الأول: الحديثُ في وصفِ عمرَ رضي الله عنه: «فلم أرَ عبقَرِيًَّا يَفْرِيْ فَرْيَّة». والفَرْيُ: قَطْعُ الجِلْدِ للخَرْزِ والإِصلاح. والإِفراء: إفسادُه. وفي المثل: جاء يَفْري الفَرِيَّ، أي: يعمل العملَ العظيم. وقال:وقرأ أبو حيوة فيما نَقَل عنه ابن خالويه (فَرِيْئًا) بالهمز. وفيما نقل ابن عطية (فَرْيًا) بسكون الراء.{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)}.وقرأ عُمَرُ بن لجأ {مَا كَانَ أَباكِ امرؤ سَوْءٍ} جَعَلَ النكرةَ الاسمَ، والمعرفةَ الخبرَ، كقوله: وكقوله: وهنا أحسنُ بوجودِ الإِضافةِ في الاسم.قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ}:الإِشارةُ معروفةٌ تكونُ باليد والعين وغير ذلك وألفُها عن ياءٍ. وأنشدوا لكثيِّر: قوله: {مَن كَانَ فِي المهد صَبِيًّا} في {كان} هذه أقوالٌ. أحدُها: أنها زائدةٌ وهو قولُ أبي عبيد، أي: كيف نُكَلِّمُ مَنْ في المهد. و{صَبِيَّا} على هذا نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ الواقع صلةً. وقد رَدَّ أبو بكرٍ هذا القولَ- أعني كونَها زائدةً- بأنها لو كانَتْ زائدةً لَما نَصَبَتِ الخبرَ، وهذه قد نصَبتْ {صَبيَّا}. وهذا الردُّ مردودٌ بما ذكرتُه مِنْ نصبِه على الحال لا الخبرِ.الثاني: أنها تامةٌ بمعنى حَدَث ووُجد. والتقدير: كيف نكلِّم مَنْ وُجْد صبيَّا، و{صَبِيًَّا} حال من الضمير في {كان}.الثالث: أنها بمعنى صار، أي: كيف نُكَلِّم مَنْ صار في المهد صَبِيَّا، و{صَبِيَّا} على هذا خبرُها، فهو كقوله: الرابع: أنها الناقصةُ على بابها مِنْ دلالتِها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي مِنْ غيرِ تَعَرُّضٍ للانقطاع كقوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 96]، ولذلك يُعَبِّر عنها بأنها ترادِف (لم تَزَلْ). قال الزمخشري: {كان} لإِيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماضٍ مبهمٍ صالحٍ للقريبِ والبعيد. وهو هنا لقريبِه خاصةً، والدالُّ عليه معنى الكلام، وأنه مسوقٌ للتعجب. ووجه آخر: وهو أَنْ يكونَ {نُكَلِّمُ} حكاية حالٍ ماضيةٍ، أي: كيف عُهِد قبل عيسى أَنْ يُكَلِّمَ الناسَ صبيَّا في المهد حتى نُكَلِّمَه نحن؟وأمَّا مَنْ فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي. ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفة، أي: كيف نُكَلِّم شخصًا أو مولودًا. وجَوَّز الفراء والزجاج فيها أَنْ تكون شرطيةً. و(كان) بمعنى (يكنْ)، وجوابُ الشرطِ: إمَّا متقدِّمٌ وهو (كيف نُكَلِّم)، أو محذوفٌ لدلالةِ هذا عليه، اي: مَنْ يكنْ في المهدِ صبيًا فكيف نُكَلِّمه؟ فهي على هذا مرفوعةُ المحلِّ بالابتداءِ، وعلى ما قبله منصوبتُه ب {نكلِّم}. وإذا قيل بأنَّ {كان} زائدةٌ. هل تتحمَّل ضميرًا أم لا؟ فيه خلاف، ومَنْ جَوَّز استدلَّ بقوله: فرفع بها الواوَ. ومَنْ منع تأوَّل البيتَ بأنها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ خبرَها هو (لنا) قُدِّم عليها، وفُصِل بالجملة بين الصفة والموصوف. وأبو عمروٍ يُدغم الدالَ في الصاد. والأكثرون على أنه إخفاءٌ. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)}.بسط قومُها فيها لسانَ الملامةِ لما رَأَوْها قد وَلَدَتْ- وظاهرُ الحالِ كان معهم- فقالوا لها على سبيل الملامة: يا مَنْ كنا نَعُدُّكِ في الصلاح بمنزلة هارون المعروف بالسداد والصلاح... مِنْ أين لكِ هذه الحالة الشنعاء؟ويقال كان أخوها اسمه هارون. ويقال كان هارون رجلًا فاسقًا في قومهم، فقالوا: يا شبيهته في الفساد.. ما هذا الولد؟ويقال كان هارون رجلًا صالحًا فيهم فقالوا: يا أخت هارون، ويا مَن في حسابنا وظَنَنَّا ما كان أبواكِ فيهما سوء ولا فساد... كيف أتيتِ بهذه الكبيرة الفظيمعة؟!{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)}.في الظاهر أشارت إلى الولد، وفي الباطن أشارت إلى الله، فأخذهم ما قرب وما بعد وقالوا: كيف نكلِّم مَنْ هو أهل بأن يُنَوَّم في المهد؟!ف (كان) هاهنا في اللفظ صلة... وحملوا ذلك منها على الاستهانة بفعلتها. اهـ..تفسير الآيات (30- 33): قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}..مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:فلما كانت هذه العبارة مؤذنة بذلك استأنف قوله: {قال} أي واصفًا نفسه بما ينافي أوصاف الأخابث، مؤكدًا لإنكارهم أمره فقال: {إني عبد الله} أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره، إشارة إلى الاعتقاد الصحيح فيه، وأنه لا يستعبده شيطان ولا هوى {ءاتاني الكتاب} أي التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف على صغر سني {وجعلني} أي في علمه {نبيًا} ينبىء بما يريد في الوقت الذي يريد، وقيل في ذلك: فانبئكم به {وجعلني مباركًا} بأنواع البركات {أين ما} في أي مكان {كنت} فيه.ولما سبق علمه سبحانه أنه يدعي في عيسى الإلهية أمره أن يقول: {وأوصاني بالصلاة} له طهرة للنفس {والزكاة} طهرة للمال فعلًا في نفسي وأمرًا لغيري {ما دمت حيًا} ليكون ذلك حجة على من أطراه لأنه لا شبهة في أن من يصلي لإله ليس بإله {وبرًا} أي وجعلني برًا، أي واسع الخلق طاهره.ولما كان السياق لبراءتها فبين الحق في وصفه، صرح ببراءتها فقال: {بوالدتي} أي التي أكرمها الله بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر، فلا والد لي غيرها {ولم يجعلني جبارًا شقيًا} بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق، إنما أفعل ذلك بمن يستحق، وفيه إيماء إلى أن التجبر المذموم فعل أولاد الزنا، وذلك أنه يستشعر ما عنده من النقص فيريد أن يجبره بتجبره، ثم أخبر بما له من الله من الكرامة الدائمة مشيرًا إلى أنه لا يضره عدو، وإلى أنه عبد لا يصلح أن يكون إلهًا وإلى البعث فقال: {والسلام} أي جنسه {عليَّ} فلا يقدر أحد على ضرري {يوم ولدت} فلم يضرني الشيطان ومن يولد لا يكون إلهًا {ويوم أموت} كذلك أموت كامل البدن والدين، لا يقدر أحد على انتقاصهما مني كائنًا من كان {ويوم أبعث حيًا} يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام، إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلًا إلا في كونه من غير ذكر، وإذا كان جنس السلام عليه كان اللعن على أعدائه، فهو بشارة لمن صدقة فإنه منه، ونذارة لمن كذبه، ولم يكن لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثل هذه الخارقة لئلا يلتبس حاله بالكهان، لأن قومه لا عهد لهم بالخوارق إلا عندهم، وإذا تقرر ذلك في نفوسهم من الصغر صعب زواله، ولم يكن هناك ما ينفيه حال الصغر، فعوض عن ذلك إنطاق الرضعاء كمبارك اليمامة وغيره، وإنطاق الحيوانات العجم، بل والجمادات كالحجارة وذراع الشاة المسمومة والجذع اليابس وغيرها. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)}.اعلم أنه وصف نفسه بصفات تسع: الصفة الأولى: قوله: {إِنّى عَبْدُ الله} وفيه فوائد:الفائدة الأولى: أن الكلام منه في ذلك الوقت كان سببًا للوهم الذي ذهبت إليه النصارى، فلا جرم أول ما تكلم إنما تكلم بما يرفع ذلك الوهم فقال: {إِنّى عَبْدُ الله} وكان ذلك الكلام وإن كان موهمًا من حيث إنه صدر عنه في تلك الحالة، ولكن ذلك الوهم يزول ولا يبقى من حيث إنه تنصيص على العبودية.الفائدة الثانية: أنه لما أقر بالعبودية فإن كان صادقًا في مقاله فقد حصل الغرض وإن كان كاذبًا لم تكن القوة قوة إلهية بل قوة شيطانية فعلى التقديرين يبطل كونه إلهًا.الفائدة الثالثة: أن الذي اشتدت الحاجة إليه في ذلك الوقت إنما هو نفي تهمة الزنا عن مريم عليها السلام ثم إن عيسى عليه السلام لم ينص على ذلك وإنما نص على إثبات عبودية نفسه كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن الأم، فلهذا أول ما تكلم إنما تكلم بها.الفائدة الرابعة: وهي أن التكلم بإزالة هذه التهمة عن الله تعالى يفيد إزالة التهمة عن الأم لأن الله سبحانه لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة.وأما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى فكان الاشتغال بذلك أولى فهذا مجموع ما في هذا اللفظ من الفوائد، واعلم أن مذهب النصارى متخبط جدًا، وقد اتفقوا على أنه سبحانه ليس بجسم ولا متحيز، ومع ذلك فإنا نذكر تقسيمًا حاصرًا يبطل مذهبهم على جميع الوجوه فنقول: إما أن يعتقدوا كونه متحيزًا أو لا، فإن اعتقدوا كونه متحيزًا أبطلنا قولهم بإقامة الدلالة على حدوث الأجسام، وحينئذ يبطل كل ما فرعوا عليه.وإن اعتقدوا أنه ليس بمتحيز يبطل ما يقوله بعضهم من أن الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط الماء بالخمر وامتزاج النار بالفحم لأن ذلك لا يعقل إلا في الأجسام فإذا لم يكن جسمًا استحال ذلك ثم نقول للناس قولان في الإنسان: منهم من قال إنه هو هذه البنية أو جسم موجود في داخلها ومنهم من يقول إنه جوهر مجرد عن الجسمية والحلول في الأجسام فنقول: هؤلاء النصارى، إما أن يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته اتحد ببدن المسيح أو بنفسه أو يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته حل في بدن المسيح أو في نفسه، أو يقولوا لا نقول بالاتحاد ولا بالحلول ولكن نقول إنه تعالى أعطاه القدرة على خلق الأجسام والحياة والقدرة وكان لهذا السبب إلهًا، أو لا يقولوا بشيء من ذلك ولكن قالوا: إنه على سبيل التشريف اتخذه ابنًا كما اتخذ إبراهيم على سبيل التشريف خليلًا فهذه هي الوجوه المعقولة في هذا الباب، والكل باطل، أما القول الأول بالاتحاد فهو باطل قطعًا، لأن الشيئين إذا اتحدا فهما حال الاتحاد، إما أن يكونا موجودين أو معدومين أو يكون أحدهما موجودًا والآخر معدومًا، فإن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فالاتحاد باطل، وإن عدما وحصل ثالث فهو أيضًا لا يكون اتحادًا بل يكون قولًا بعدم ذينك الشيئين، وحصول شيء ثالث، وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتحد بالوجود لأنه يستحيل أن يقال: المعدوم بعينه هو الموجود فظهر من هذا البرهان الباهر أن الاتحاد محال.وأما الحلول فلنا فيه مقامان: الأول: أن التصديق مسبوق بالتصور فلابد من البحث عن ماهية الحلول حتى يمكننا أن نعلم أنه هل يصح على الله تعالى أو لا يصح وذكروا للحلول تفسيرات ثلاثة: أحدها: كون الشيء في غيره ككون ماء الورد في الورد والدهن في السمسم والنار في الفحم، واعلم أن هذا باطل لأن هذا إنما يصح لو كان الله تعالى جسمًا وهم وافقونا على أنه ليس بجسم.وثانيها: حصوله في الشيء على مثال حصول اللون في الجسم فنقول: المعقول من هذه التبعية حصول اللون في ذلك الحيز تبعًا لحصول محله فيه، وهذا أيضًا إنما يعقل في حق الأجسام لا في حق الله تعالى.وثالثها: حصوله في الشيء على مثال حصول الصفات الإضافية للذوات فنقول: هذا أيضًا باطل لأن المعقول من هذه التبعية الاحتياج فلو كان الله تعالى في شيء بهذا المعنى لكان محتاجًا فكان ممكنًا فكان مفتقرًا إلى المؤثر، وذلك محال، وإذا ثبت أنه لا يمكن تفسير هذا الحلول بمعنى ملخص يمكن إثباته في حق الله تعالى امتنع إثباته.
|